لم يكن انعقاد معرض الكتاب بالإسكندرية في خريف كورونا الجاري، ومروري غير المخطط له به قبل موعد عمل مهم، ومصادفة صديقي الكاتب أمامي مباشرة في صف الدخول، وإخباره إياي بما لا ينبغي فواته من المعرض، وتوقيعه لي على نسخة من الطبعة الثانية من كتابه الذي أحتفظ بنسخة من طبعته الأولى منذ سنوات، ثم شرائي عشرة عناوين في عشر دقائق – تضمنت عدة صور تذكارية وسلام على أصدقاء آخرين-، ثم أخذ رأي الصديق الأول فيما أكتب وتشجيعه إياي أن أستمر وأن أبدأ بتسجيل ما حدث في ذلك اليوم، ثم العودة للمنزل ومناقشته في ما اقتنيت من المعرض وقراري بالبدء برواية الغريب لألبير كامو، لم يكن كل ذلك أقل غرابة مما حدث بعدها بأسبوعين عندما قابلت الغريب بحق.
كان صباح تلك الجمعة مشمسًا رائقًا ومشجعًا كذلك لأن أجالس “غريب كامو” في مقهى متميز يري البحر وجسر ستانلي من علٍ. دخلت وصعدت للدور العلوي لاختيار طاولة ملاصقة لإحدى النوافذ، لكني وجدت العديدين ممن سبقوني لها جميعًا. جلست مؤقتًا على طاولة تنتصف المساحة العلوية، يتقاطع بها الخارج من المطبخ للنزول للدور السفلي، مع الداخل للحمام، مع العائد لطاولته بجانب النافذة..لم تكن مناسبة أبدًا للقراءة الهادئة مع مرور الجميع من حولي ووصول أصوات الجميع لأذناي المشتاقتين لبعض الهدوء.
ألقيت نظرات على جميع الجوانب لملاحظة أي مستعد للرحيل عن أي طاولة مطلة على البحر لأسبق غيري إليها، وفي خضم استطلاعي المختلس رأيته يطلب من المدير قهوته بصوت عال أثناء فتحه علبة حلويات من “لابوار”..حسنًا! لا يبدو إحضار حلويات للمقهى مشكلة في أي مكان إلا لو اخترت الجلوس في “كوستا” مثلًا، وهو ما قد كان! ( لاحظ عزيزي/زتي أني حاولت الإشارة للمكان دون تسميته في الفقرة السابقة لكني فشلت، أو ربما ارتحت لك كفاية لأن أخبرك!)
أعجبني أسلوبه وجرأته في وجه سياسات السيد كوستا الرأسمالية لاستقبال زبائنه ( لن أسميهم ضيوفه لكي لا نضفي بعدًا اجتماعيًا مُدّعى على سلسلة مقاهي تملكها كوكاكولا بجلالة قدرها). المهم أنه بعد ذلك بقليل حجز طاولة على الجانب الآخر ليسبق الطامحين في موقع استراتيجي مثلي وانتقل إليها. لم يمر وقت طويل حتى لحقته في طاولة مقابلة واندمجت في قراءة قصة “ميرسو” وعزاء والدته الراحلة، وعلاقته بأصدقائه، وجريمة القتل المفاجئة، إلى آخر القصة.
كان الأغرب من غريب كامو، هو الجالس أمامي الذي كان منهمكًا في تصفح جريدة أهرام الجمعة ممسكًا قلمًا جافًا أزرق اللون يكتب بعرض صفحة الجريدة الكبرى كلمات لم أتبينها وكأنه يوقعها، ثم يقص أجزاء منها ويضعها في كوب القهوة الملاصق لزجاجة الكحول المخصصة لتطهير اليدين..توجست من المنظر وخفت أن يشعل القصاصات المتراكمة بيننا، فظللت أتابع ما يفعل لا إراديًا.
كان الرجل، الذي بدا في منتصف أربعينياته، يرتدي نظارة شمس وملابس رياضية بها لمحة من الأناقة أكدتها حقيبة رياضية كبيرة كان يضعها على الكرسي المجاور له، وكان يوقّع جميع الصفحات ويكتب بها جملًا متفرقة لم أتبين منها سوى واحدة -سجلتها بسرعة على هاتفي لكي لا أنساها-، ثم يمزق أجزاء منها ويضعها في الكوب الفارغ قبل أن يضيف لها بعضًا من الكحول..تحقق ما كنت أخشاه، هكذا فكرت! بدا الرجل على وشك إشعال القصاصات في أي لحظة فاستمررت في ملاحظة أفعاله أكثر دون أن أبادله النظرات قدر إمكاني.
خمنت أنه مسئول مهم أو ضابط سابق بجهاز أمني -لهيئته الرياضية الواضحة وملابسه المهندمة-، اعتاد في الغالب إعطاء الأوامر وتوقيع الأوراق المهمة قبل أن يتعرض لأزمة نفسية عقب تقلبات عامة كبرى أثرت على مسارات من أظنهم مثله في السنوات القليلة السابقة، و/أو زواج فاشل، – لخلو يديه من خاتم زواج-، أو ربما مزيج من الأزمات الخاصة والعامة أثّر بعضها في البعض الآخر. على أي حال، هالني ما يمكن أن يتحول إليه أحدهم.
بالرغم من أن ما تعرض له لم يكن سهلًا على الإطلاق، لم أعرف إن كان عليّ أن أتعاطف معه أم لا، ليس فقط للسلطة التي أظنه كان يتمتع بها في وقت سابق، ولا للوضع المادي الجيد الذي يتمتع به، ولا لقوته البدنية الظاهرة، بل للجملة الوحيدة التي كتبها بخط كبير على الصحيفة واستطعت قراءتها وسجلتها لكي لا أنساها : “ أنا لا أثق بأحد إنما بشتغل من حولي”!
لم أستطع التأكد إن كان “بيشتغل” من حوله، أم” بيشتغل نفسه”، لكنه على أي حال ألهمني بما فيه الكفاية لتسجيل ما حدث في مدونتي الفقيرة..لذا، فبكل رحابة صدر وسماحة نفس وروح رياضية أقول لك أيها الرجل المهم: “اشتغالة مقبولة”.